ArgaamArgaam

‏هل تتحول باريس إلى قبلة المستثمرين وأسواق المال بدلاً من لندن في أوروبا؟

تتقدم سوق الأسهم الفرنسية بقوة لانتزاع عرش لندن من صدارة مراكز أسواق المال في القارة الأوروبية ما يرجع في جزء منه إلى المشكلات الاقتصادية التي باتت تعاني منها المملكة المتحدة منذ خروجها من تكتل الاتحاد الأوروبي وحتى الأزمات العاصفة التي أحاطت بحكومة "ليز تراس" وأدت إلى استقالتها فائقة السرعة.

وكانت الفجوة بين سوقي الأسهم في بريطانيا وفرنسا تصل إلى 1.5 تريليون دولار لكنها تنكمش منذ انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي في 2016. وارتفعت القيمة السوقية لجميع الشركات المدرجة في بورصة باريس من 1.8 تريليون دولار في 2016 إلى 2.823 تريليون دولار لتتفوق على قيمة الأسهم في لندن والبالغة نحو 2.821 تريليون دولار وذلك في منتصف نوفمبر وفقا لبيانات جمعتها بلومبرج.

تحدي قاسي

ويشكل ذلك تحديا قاسيا لمكانة لندن باعتبارها موطنا لأكبر أسواق المال في أوروبا، مما يقوض من مكانة بريطانيا بعد انفصالها عن الاتحاد الأوروبي باعتبارها أهم مركز مالي في القارة العجوز، وتشير التوقعات إلى أن الاقتصاد البريطاني سيسجل ركودا هذا العام لكن التوقعات تشير أيضا إلى أن فرنسا تتعرض لضغوط اقتصادية كبيرة.

ويقول "ويليام رايت" مؤسس "New Financial" وهو مركز أبحاث بريطاني إن التفوق الفرنسي يرجع إلى "الأداء الضعيف للأسهم البريطانية، وضعف الخطط المستقبلية وأداء إصدارات الأسهم الجديدة في المملكة المتحدة، والأداء بالغ السوء للجنيه الاسترليني، ومن الواضح أنها ليست أخبار سارة للندن، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عامل كبير مؤثر في الثلاثة أركان".

ويثير تراجع مركز لندن السوقي قلق صانعي السياسات في المملكة المتحدة الحريصين على الترويج لمنافع الانفصال عن التكتل التجاري وإعادة تأسيس جاذبية ما بعد الخروج من الاتحاد في الوقت الذي تستحوذ فيه باريس وفرانكفورت وأمستردام على أجزاء من نشاط لندن اليومي.

وقال "روس مولد" من "إيه جي بل" للاستثمار إن خسارة لندن للمركز الأول في تقييم سوق الأسهم لصالح باريس "ضربة لمكانة المدينة".

وقال "منذ التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في يونيو 2016، ارتفع مؤشر كاك 40 الفرنسي 47% وتقدم المؤشر "فوتسي 100" في لندن 16% فقط، لكن الفجوة لا تعود إلى الانفصال البريطاني وحده. سوق لندن أكثر انكشافا على قطاعات لا يمكن التنبؤ بها مثل شركات التعدين والنفط، وقطاعات أخرى تعاني من بيئة صفرية الفائدة مثل البنوك وشركات التأمين".

باريس تعزز جاذبيتها

من ناحية أخرى، قالت "ألبرتينا توروسلي" الصحفية لدى بلومبرج والتي تغطي الأسواق والشركات الفرنسية منذ عشر سنوات إن المشكلة لا تكمن في الصعوبات التي تعانيها بريطانيا فحسب، لكن باريس عكفت على تعزيز جاذبيتها للمستثمرين الأجانب، فضلا عن متانة قطاع المنتجات الفاخرة الفرنسي لهذا فإنها لا تشعر بالدهشة من أن تحل المملكة المتحدة حاليا في المركز الثاني.

وقالت "الإعداد لذلك التطور استغرق وقتا طويلا. إنها ليست فقط المشاكل التي تواجهها المملكة المتحدة منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إنها أيضا خمس سنوات أخرى من حكم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي ساعدت في منح المستثمرين الثقة" مضيفة أنه على عكس الاضطرابات السياسية الأخيرة في المملكة المتحدة فإن فرنسا شهدت حالة معينة من الاستقرار.

وتراجعت الأسهم البريطانية التي تركز على السوق المحلية منذ بداية العام الجاري، بينما تلقت شركات صناعة السلع الفاخرة الفرنسية مثل "إل في ام اتش"، و"كيرنج" المالكة للعلامة التجارية "جوتشي" الدعم بفعل التفاؤل بتخفيف محتمل لسياسة صفر كوفيد التي تطبقها الصين.

وتهيمن شركات السلع الفاخرة على سوق الأسهم الأوروبية، و"إل في ام اتش" المالكة للعلامة التجارية "لوي فيتون" تبلغ قيمتها حاليا 360 مليار دولار تقريبا وهي أكبر شركة في أوروبا من حيث القيمة السوقية.

ومثّل المشترون الصينيون 35% من الطلب العالمي على السلع الفاخرة قبل وباء كورونا على الرغم من أن حصتهم كانت تبلغ نصف ذلك الرقم فحسب في 2022 وفقا لتقديرات "بلومبرج انتليجنس".

ليز تراس وأزماتها

وتسببت الأزمة الاقتصادية الناجمة عن خطط الحكومة البريطانية السابقة برئاسة ليز تراس والميزانية المصغرة التي كشفت عنها حكومتها والتي شملت تخفيضات ضريبية لم تلق قبول المستثمرين وما تلاها من عاصفة في الأسواق المالية البريطانية في تراجع الجنيه الاسترليني لأدنى مستوياته منذ 1985 مقابل الدولار.

وتعرضت أسهم الشركات البريطانية متوسطة الحجم لضغوط جراء توقعات بأن البريطانيين سيعانون بفعل ارتفاع تكاليف الطاقة أكثر من أي مكان آخر وبالتالي سيقلصون إنفاقهم محليا، فيما ستواجه الشركات صعوبات جراء ارتفاع التكاليف أيضا، بينما يواجه مالكو المنازل البريطانيون ارتفاعا في مدفوعات الفائدة بالنظر إلى اتساع حجم منح قروض الرهن العقاري ذات الفائدة المرنة في البلاد. وخلال ثلاثة أسابيع فحسب من تولي تراس منصبها، فقدت أسواق الأسهم والسندات البريطانية قرابة 500 مليار دولار من قيمتها المجمعة، فيما انهارت ثقة المستثمرين بسبب الميزانية المعلنة.

وأدى ذلك إلى تداول المؤشر "فوتسي 250" للشركات المتوسطة بخصم 30% إلى المؤشر "إم اس سي آي" العالمي وهي الفارق الأكبر منذ أزمة "الدوت كوم" في عام 2000 وفقا لما كتبه محللو "جولدمان ساكس". وقالت "شارون بيل" المحللة لدى البنك "نعتقد أن الخصم مستحق بالنظر إلى التوقعات الضعيفة للنمو البريطاني، ومستوى الجنيه الإسترليني، ومخاطر على صعيد النزول".

لندن وعناصر تفوق أخرى

احتفظت لندن بمكانتها كمركز رائد عالميا لتداول العملات الأجنبية والمشتقات على الرغم من تراجع حصتها في كلتا السوقين.

لكن الفجوة التي كانت تتمتع بها بشكل تقليدي في الأسهم مقارنة مع بقية العواصم الأوروبية تذهب أدراج الرياح منذ أن خرجت بريطانيا من السوق الموحدة. وخرج ما يزيد عن ستة مليارات يورو من الأسهم الأوروبية المدرجة والتي كان يجري تداولها عادة في المدينة في أول يوم لخروجها من الاتحاد الأوروبي، مما سمح لأمستردام بنيل لقب أكثر الأسواق نشاطا.

وتعرضت قيمة الأسهم بالدولار في بورصة لندن لضغوط جراء انخفاض العملة البريطانية منذ عام 2016. (تراجع الجنيه الاسترليني بنحو الخُمس مقابل الدولار منذ يناير 2016، بينما انخفض اليورو بنحو 4% فقط).

وقالت "سو نوفكي" رئيسة قسم الأسهم البريطانية لدى مؤسسة "شرودرز" إن الجنيه الاسترليني انخفض بشكل كبير منذ التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "مما أدى إلى ارتفاع معدل عمليات الدمج والاستحواذ، مع استفادة العاملين في الاستثمار المباشر ومشتري الشركات من الخصم في تقييم بريطانيا مقارنة مع بقية أسواق الأسهم".

ومن بين الشركات الكبيرة التي خرجت من السوق نتيجة عمليات الاستحواذ "إيه ار ام" و "شاير"، و"ساب ميلر" و"سكاي"، و"كوبهام"، و"ميجيت"، و"دبليو ام موريسون"، وشركة التأمين "آر اس ايه".

لكن انخفاض قيمة العملة سلاح ذو حدين، إذ يقول محللون إنه ساهم في تعزيز أداء الشركات الكبرى المدرجة في بورصة لندن بفضل تحسن إيرادات التصدير لديها.

تتفوق لندن على باريس بهامش أكبر عند الأخذ في الاعتبار شهادات الإيداع الدولية والشهادات المصرفية التي تعكس ملكية الأسهم في الشركات الأجنبية، والتي تمثل على نحو تقليدي نسبة كبيرة من رأس المال السوقي للعاصمة لندن. عند احتساب شهادات الإيداع الدولية، يبلغ إجمالي رأس المال السوقي في لندن 6.2 تريليون دولار مقارنة مع 3.7 تريليون دولار لباريس وفقا لبيانات بورصة لندن.

ولإعادة ترسيخ مكانتها القيادية التقليدية، تسعى الحكومة البريطانية إلى وضع اللمسات الأخيرة على مقترحات لإصلاح الحي المالي في لندن بما في ذلك إجراء تعديلات على نظام إدراج الشركات ليصبح أكثر جاذبية للشركات.

ومع ذلك، اجتذبت المملكة المتحدة 60 إدراجا جديدا جمع الواحد منها أكثر من 100 مليون دولار على مدى السنوات الثلاثة الماضية، بقيمة إجمالية 26 مليار دولار، مقارنة مع استقطاب فرنسا 19 إدراجا جديدا جمعت ثمانية مليارات دولار فحسب وفقا لإحصاءات "شرودرز".

وقال "أندرو لابثورن" الخبير الاستراتيجي لدى "سوستيه جنرال" إن نمو عدد عمليات الإدراج الجديدة يوفر انعكاسا أفضل لمتانة سوق الأسهم.

تصنيف مديري الصناديق ودور مهم

ومع ذلك من المقرر أن تشتد المنافسة مع باريس إذ أن مديري الصناديق يصنفون فرنسا باعتبارها سوق الأسهم الأوروبية المفضلة.

وقال 17% من مديري الصناديق في نوفمبر إنهم يعتزمون "زيادة وزن" الأسهم الفرنسية على مدى 12 شهرا وفقا لمسح أجراه بنك أوف أمريكا شمل 161 مدير استثمار يديرون أصولا بقيمة 313 مليار دولار.

وألحقت الميزانية المصغرة التي أعلنتها حكومة ليز تراس ضررا شديدا بثقة مديري الصناديق، إذ انخفضت نسبة مديري الصناديق الذين كانوا يعتزمون منح المملكة المتحدة وزن زائد من 37% صافي في سبتمبر إلى صفر في نوفمبر.

وقال "أندرياس بروكنر" المحلل الاستراتيجي لدى "بنك أوف أمريكا" إن مديري الصناديق خفضوا مراكزهم للوزن الزائد خلال أغسطس وسبتمبر وأكتوبر في أسهم الطاقة الأوروبية، وهي قطاع رئيسي في سوق الأسهم بالمملكة المتحدة، وانتقلوا في نفس الفترة إلى "زيادة وزن" الشركات الصناعية وهو قطاع له تأثير كبير في سوق الأسهم الفرنسية.

وقال "بن ريتشي" رئيس قسم الأسهم البريطانية والأوروبية لدى "أبردين" لإدارة الأصول ومقرها أدنبرة إن الاختلافات في هيكل بورصتي الأسهم ساهمت في تحول مقدرات المملكة المتحدة وفرنسا.

وقال "الأداء كان يمثل تحديا لبعض القطاعات المهمة في المملكة المتحدة بما في ذلك البنوك والأدوية والموارد الطبيعية وحتى شركات النفط... تمتعت فرنسا بعوامل مواتية ناجمة عن أداء شركات السلع الفاخرة القوي والانكشاف الأكبر على الشركات الصناعية وشركات التكنولوجيا".

وأضاف أن المساهمين في الشركات البريطانية يشعرون بقلق بالغ بشأن توزيعات الأرباح التي تعتبر أمرا مقدسا، مما أدى إلى نقص الاستثمار في حين كان هناك تغيير جذري في الرأسمالية الفرنسية التي أصبحت الآن أكثر تركيزا على النمو.

المصادر: أرقام- بلومبرج- فايننشال تايمز- بي بي سي